ظلت الديمقراطية عندنا مثل البالون المنتفخ يكبر حجمه باستمرار مع أنه فارغ تماما من الداخل، ومع أي انسداد سياسي جد معقد ينفجر ذلك البالون في وجوهنا ليخرج منه البيان الأول، ثم سرعان ما نعود مرة أخرى لعملية نفخ الباالون كأننا مجرد أطفال يلعبون. إننا منذ عقدين وأكثر ونحن نقوم بتدوير ديمقراطية مُزيفة في مسار عشوائي مثل الحشرة المحترمة المعروفة محليا باسم بوجعران، بوجعران الذي يقضي سحابه يومه وهو يكور الفضلات حتى يجعل منها كرة ناعمة الملمس وأنيقة المظهر رغم قذارة مكوناتها..
أوائل التسعينيات اجتاحت الديمقراطية بلادنا الشقيقة والصديقة، كانت معلبة مثل الألبان المستوردة، نسي الشعب أن يقرأ محتوياتها جيداً بسبب انتشار الأمية ولأنها أيضا كانت مكتوبة بحروف لاتينية باردة، كما نسي أن يخض العبوة جيدا قبل فتحها فربما كانت مغشوشة. المهم أن الشعب صوت على دستور يوليو 1991 وأصبحت بلادنا بين عشية وضحاها ديمقراطية مثل سويسرا ودون المرور بمحطات النضال الثقافي والاجتماعي البطيئة والقاسية. فجأة هبط الجميع بالمظلات إلى آخر محطة من محطاتها؛ النضال العمودي نحو مقاعد البلدية والبرلمان...
بالتزامن مع ظهورها كانت شبكة المياه والكهرباء تتمدد لتوها في أحشاء الوطن. أخذ الناس في الاستحمام ومتابعة العالم الخارجي بشكل مرئي، مع وفرة المياه المتدفقة من الحنفيات بدأ الناس زراعة الطماطم والجزر والنعناع بداخل أحواشهم. ومع انتشار الخضروات وتدفق كل أنواع البضائع المستوردة إلى السوق بدأ القمل وبقع الگوب يختفيان بشكل تدريجي من رؤوس الناس، كانت الإذاعة أيامها مشغولة في توعية الناس بمخاطر السمنة والأمية وعدم غسل الأيدي بالصابون قبل تناول الأكل ومخاطر التبرز في العراء والتسرب المدرسي. مع انتشار عمليات التلقيح والطفرة الكبيرة في الأقمشة والأطعمة ومواد التجميل وأطباء الأسنان؛ بدأت ملامح السلالة تتحسن وتبدو أكثر تناسقا. قارنوا مثلا بين ملامح أطفالكم وأعمامهم، طبعا ليس هذا شرحا مبسطا لفرضية التطور لغير مثبتة عند داروين وليس هذا موضوع المقال بكل تأكيد..
ظلت الوظائف العمومية الصغيرة محترمة وإن بقيت رواتبها مضغوطة. مع منتصف التسعينيات وأواخرها، أخذت الحكومة تضخ المال العمومي وهيبتها ووسائلها بكل غزارة في العملية السياسية، وظهر بكل قوة ما يعرف بالتعيين السياسي، الذي عمل مثل مُحفز كيميائي فعال للتفاعلات القبلية والأثينية وزاد من توهجها؛ وسرَّعَ من سيطرتها على المشهد السياسي الذي حولته إلى نظام تنافسي شبه مغلق، لتتركز الوظائف في دوائر كتيمة؛ أحاطت نفسها بعد ذلك بتعليم عمومي متقهقر، يقذف كل سنة بدفعة جديدة من حملة الشهادات البائسين...
نتيجة التدفق الغزير للموارد وتمويلات الدول المانحة والبنك الدولي على شكل هبات وديون طويلة الآجال، توفرت سيولة مريحة تسببت في انتشار الأثرياء الجدد الذين لم يمارسوا مطلقا التجارة في شبابهم؛ ولم يضعوا القرش فوق القرش كما يقول المصريون، بل إنهم في غالبيتهم موظفون كانوا لا يحلمون بأكثر من منزل رحب لا يسدد فواتير الكهرباء والماء وسيارة رباعية الدفع بمقدورها أن تجعل الغبار يتصاعد بين مضارب القبيلة..
مع انتشار الثراء العشوائي والمفاجئ وهو ثراء ريعي ومريح لا تضايقه الضرائب ويتغذي بشراهة على مداخل الدولة باستمرار، حيث كانت سنة واحدة تحت ظلال وظيفة تسدُ فتحة أحد ينابيع التمويل تخول لصاحبها التوغل بسرعة لعالم الأثرياء الجدد. تكدست معظم تلك الثروات المنهوبة على شكل كهوف إسمنتية في جزء صغير من العاصمة وكذا مداخل بعض مدن الداخل ومخارجها، وعلى شكل قطعان سائبة في البراري واستثمارات جامدة في أوروبا وبنوكها العتيقة. كل ذلك كان محفزا لتكاثر الفساد في مفاصل الدولة وخبايا المجتمع العميق القادم من البادية لتوه بعيد سنوات الاستقلال، نتيجة توغل البذخ أفقيا داخل المجتمع العميق تميع الأدب وانحرف الفن وتقزمت الثقافة وأصبحت مثيرة للاشمئزاز، وشيئا فشيئا تخرمت عُرى القيم التي تدثر بها البدو طيلة قرون طويلة أمام أول اختبار حقيقي مع الحضارة المجسمة.
تسبب الإسراف في المال العام والتبذير للمال الخاص حينها؛ في فساد اجتماعي وثقافي وسياسي لم يسبقه نضال ثقافي واجتماعي جاد يتصدى له كما أسلفت في بداية النص. تسبب كل هذا في ضمور القيم التطبيقية وتضخم القيم النظرية على حسابها، ومع استفحال الرأسمالية العشوائية التي وجدت سيولة أمامها انقلب الحضور المؤسسي للدولة رأسا على عقب. فمع أوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين؛ أخذت الدولة تسحب البساط من تحت مؤسساتها وتقتلها ببطء شديد، مما تسبب حينها في التقري العشوائي للصفقات والمشاريع التنموية، بل وجعلها في أيدي القبائل ورجال الأعمال، بالتزامن مع ذلك، تم تفريغ المؤسسات العمومية من محتواها وتراجع الحضور الخدماتي لها. مثل المدرسة والمستشفى والبلدية والمحكمة والتلفزة الوطنية....الخ
اليوم وبعد عقدين وأكثر من الديمقراطية المتعثرة التي لم تطعم ذبابة وتوقف دبابة عند حدها. اليوم، ونحن على شفا منحدر سياسي جديد، منحدر مثير لوساوس الأمل وجالب لقمامة الأحلام الضائعة، أرى أنه من الأهمية بمكان طرح السؤال التالي وبكل صراحة، هل ديمقراطيتنا حقيقية ومفيدة؟
عند التفكير في الإجابة على هذا السؤال تعود بي ذاكرتي إلى صبيحة سبت قديم من أواخر 2013 عندما كنتُ رئيس مكتب اقتراع في مكان عميق من الوطن وهي أول تجربة لي مع الديمقراطية، وقد صرحت بذلك لرئيس اللجنة آنذاك بيد أنه لطيبته ربما لم يقم بتجريدي من المنصب، ترأست المكتب حينها رفقة اثنين من الجنود يحملان أسلحة رشاشة وعضوين لتقديم العون، ممرض دولة وموظفة أخرى في أحد المراكز الصحية، وشاهدا عيان أحدهما كان من الحزب الحاكم والآخر من حزب تواصل والغريب أنني ظننت أنهم أصدقاء لعدم تشاجرهما ودفئ العلاقة بينهما طيلة ذلك اليوم. أعجبتني حقا روحهما الرياضية وانضباطهما التكتيكي...
لم أتمكن ليلتها من النوم بسبب التوتر والقلق على المعدات ولجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقي، عند الخامسة صباحا جهزت المكتب، وضعت الرداء والصناديق وجهزت اللوائح، مع السابعة صباحا بدأنا العمل ومع السابعة مساء تم غلق نهاية الطابور بيد أن التصويت لم يكتمل إلا بساعتين بعد منتصف الليل، طوال 19 ساعة وأنا جالس بتركيز كبير باستثناء فواصل صغيرة للصلاة والأكل وأشياء أخرى. من اللقطات المبكية والمضحكة، أن شيخا في مقدمة الطابور كان ينادي علينا بجلب زكائب لتعبئتها بأصوات الناخبين عندما بدأت الصناديق تكتظ بسبب حجم اللوائح وضخامتها خاصة لائحة النساء واللائحة الوطنية، استغربت كيف قضى المرشحون حملتهم الانتخابية ومعظم ناخبيهم لا يعرف الطريقة المُثلى للتصويت ولا يعرف شعار مرشحه حتى، واستغربت أكثر من ذلك الشاب الجامعي والمثقف الذي دخل علينا يريد أن يصوت بالنيابة عن قريبه المجنون، كأنه لا يعلم أن القلم قد رفع عن المجنون، مع أنني مؤخرا بت أثق في مجانين هذا الوطن أكثر من عقلائه!
لم يكد ذلك اليوم الشاق والطويل ينتهي حتى أصبت بآلام حادة في المعدة وبنوبات غثيان وحمى بسبب الطاقة التي فقدتها في التركيز والتوتر والسهر مما جعلني أكره الديمقراطية لغير مسبوقة بنضال ووعي مجتمعي، أخذت المبلغ الذي جنيته من حراسة الديمقراطية في ذلك اليوم وكانت فترة تربص قاحلة بالنسبة لنا نحن خريجو المدرسة العليا لتشريد الأساتذة، قمت بشراء سرير نحيف وبطانية تحميني من لسعات البرد في ليال ذلك الشتاء، عندها فقط شعرت بدفئ الديمقراطية وأنها ربما تكون مفيدة. ربما كانت غلطتنا كشعب أن تناولنا الديمقراطية على معدة فارغة وحاولنا زراعتها قبل استصلاح التربة.
ختاما، بما أن الحفاظ على الموجود من الديمقراطية أولى من طلب المفقود منها، ومن باب الواقعية ومعرفتي العميقة بأن التغيير بطيء وبأن الخريطة السياسية التي ستتشكل من جديد ستتشكل بأقدام كاذبة مثل الأميبا، والأميبا لمن لا يعرفها هي كائن حي وحيد الخلية يقضي دورة حياته كلها متطفلا على الأجسام الأخرى. رغم كل ذلك، قررت أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا أن أسجل في القوائم الانتخابية وأن أدلي بصوتي وهو المتاح لي كمواطن. ربما يكون صوتي قطرة صغيرة تساعد في تدفق نهر التغيير، ومن الآن وصاعدا سأبحث عن مرشح صالح انتخبه سواء كان مواليا أم معارضا، شرط أن تكون يده نظيفة من المال العام وتاريخه السياسي مشرف!
هنا نواذيبُ، الساعة 16:10 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.