ذات غروب محفوف بغبار القصص المتولدة من خطوات العائدين من الدوام في أعماق الكفاح وأطراف الحياة النائية، كنتُ أسير بمحاذاة الشوارع المتآكلة الأرصفة مثل أظافر صغار المزارعين الذين لا تعتني الحكومة بأصابعهم المُتعبة ولا تحافظ على نعومتها، نادتني امرأة من الخلف:
- "الرَّاجل هاه ألي مَسْتكبَل"!
حسبته نداءً عشوائياً تولد من زحمة المدينة المختلطة الأصوات، فواصلت خطواتي المتلاشية آثارها والأفق بدأ يحمر بغروب دموي حزين مثل خدود رضيع رأى نور الحياة ملفوفا بالظلام ورُمي فجراً في العراء البارد. كان نهاري يلفظ أنفاسه الأخيرة ويذوب في عمر مثل السلالم الصاعدة نحو وجهات غامضة مغلفة بالضباب، عمر خاطف يجعل من الحياة شعاع نور خافت ونحيف يخترق أفقا رحبا مزدحما بالنسيان والظلام الدامس والمحن والأفراح المتلعثمة. لم أتجاهل النداء الثاني للمرأة، عندما بدا لي صوتها أرفع وأقرب وألطف مع لكنة إلحاح قروية تتخللها عفوية بدأت تتحضر بمشقة قائلة لي:
- "أَلَّىىى هُوَ ذَ الرَّاجل أَمْالوو!"
التفت مع دوران فلسفي يشبه دوران الدراويش عندما يرقصون دون توقف وأعينهم في مكان بعيد من التأمل. صوبت النظرة الأولى إلى وجه المرأة القادم من أعماق المساء. لم يكن وجهها مألوف الملامح ولم تتطرق لذكر اسمي! كانت فارعة الطول مثل نخلة عبد الرحمن الداخل التي غرسها في الأندلس حنينا إلى بلاد الشام. معتدلة القوام كالتماثل المنحوتة من الشمع، لونها يشبه غروبا شتويا غارقا في ضباب شفاف. بدت ابتسامتها ورغم أنها مفتعلة، مبهجة مثل طلوع قمري مكتمل البدر في أديم سماء صقيلة تغطي صحراء نقية الرمال. كان ظهورها المثير حكاية من الأدب الروسي حفزت نفسي لمحاولة فهم متسارع للصراع العميق والعنيف بين الغرائز الأرضية والمُثل السماوية. لمحت على تقاسيم وجهها بذور مأساة متشعبة الجذور وحياء خافتا كوميض برق بعيد دفنته قساوة الظروف كما يبدو وتبقى منه القليل من التردد في محادثة الغرباء..
قالت المرأة لي بصوت يشبه خرير المياه المنسابة من أعالي الصخور نحو جداول الماء وهي تسير بمحاذاتي كحصان يدنو من بلوغ نهاية المضمار، وبجوارها طفل يبكي بحرقة يسير خلفها ماسكا أطراف ملحفتها معيقا عبث الرياح بها كأنه يمسك قطعة حلوى في حلم شتوي يستيقظ منه دائما وأصابعه ترقص في الفراغ:
- "الراجل يسوَ عليك فحد تشرب معاه أتاي شور الدار هون كريب"
قالتها مع تلميح غير مشفر بتحويل جلسة الشاي لخدمة عاطفية تسخن كؤوسها بنيران الرغبات المتوهجة بقوة كحرائق الغابات. ثم أضافت بأنها تريد مبلغ 2000 أوقية قديمة مقابل تفعيل الخدمة القاتمة!
كانت الشمس تذوب في الأفق كقرص فوار، وأحسست بالرغبات تضع كلتا يديها وراء ظهري وتدفعني نحو السقوط بداخل البركان الملتهب المحفوف بالمناظر الخضراء ورؤوس الشياطين الراقصة والمبتسمة. ازدحمت الهواجس في عنق الغروب تريد أن تخرج لوجهة واحدة وآذان المغرب بدأ يجوب السماء رفقة أسراب الطيور المحلقة والأصوات المختلطة القادمة من أعماق المدينة وأطرافها النائية. كان سؤالها عن النقود مشبعا بإلحاح متصاعد الوتيرة. انتبهت إلى أن الإملاق ربما هو الذي دفع هذه الثلاثينية لجعل جسدها جسرا لعبور رغبات الغرباء. بعد حديث لولبي بغية فهم دوافعها ومقاصدها، لاحظت تذمرها من تتبع دوافعها. أخرجت المبلغ من محفظتي النحيفة وناولته إياها وقلت لها هذا المبلغ لوجه الله ولست ملزمة بسكب كؤوس "الشاي بالياسمين" بعيد الغروب...
أحمر وجهها وامتلأ بالاستغراب والدهشة ثم أفصحت بلكنة ريفية عفوية عن جديتها في سكب "الشاي بالياسمين" وبما لا يدع مجالا للشك، وبما يوحي بأن "للعهد عندها معنى!"
عندئذ، قلت لها نلتقي بعيد الصلاة قرب حائط المسجد القريب من مكان وقوفنا دون أخذ رقم هاتفها طبعا. ثم تركت خطواتها تذوب في الغياب وبقايا أنوار المساء إلى الأبد. كانت الخلاخل تشتاق إلى سيقانها والطفل الباكي يسير خلفها في مشهد يشبه لوحة حزينة رسمت بحبر جمعت ألوانه من رماد الحروب ودموع اللاجئين وشذى الورود..
قلت في نفسي وأنا أسير على أشلاء الرغبات مبتعداً عن المغناطيس المزروع في صوتها:
- وراء قصة هذه السيدة ربما رجل تملص من مسؤولياته الأبوية وأذابها في الغياب، وحكومات تراخت في حماية الأسرة المُفككة وتركت مواطنيها على قارعة الطريق ليتكبدوا عناء تحصيل لقمة العيش بمشقة في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء الخدمات بينما ثروات بلادهم يتم تكديسها في جيوب المفسدين المُبعدين دائما عن المحاسبة والتجريد والازدراء أيضا من المجتمع من ظهور الديمقراطية أوائل التسعينيات وحتى الآن!
ملاحظة: القصة ليست مستوحاة من الخيال، بل حقيقية وحصلت معي في أحد من شوارع البلاد البالغة مساحتها 1،030،700 كم²، وأي تشابه بينها وبين لقطات أخرى لا أتحمل مسؤوليته طبعا، فلا تتعبوا أنفسكم في السؤال أو البحث عن إحداثيات الشارع ودعوكم من "التخشاش" والمثالية المزيفة على حد سواء.
هنا نواكشوط. والساعة 14:58 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.