الإشارة الحمراء!


أذكر عاما ليس بالقريب قررت تعلم فنون السياقة، فاستأجرت لذلك عشرة أيام من إحدى مدارسها في مدينة الدخان وتقلب الفصول نواكشوط. كانت الحصة اليومية مقسمة لجزئين:
- الجزء الأول: حصة مع المدرس الذي كان يأخذني في جولة بساحة فارغة مع تحكمه المستمر بفرامل السيارة المغروسة عند أسفل قدميه، إضافة لثرثرة صاخبة عن أمجاده الميكانيكية على الطرقات المقعرة.
- الجزء الثاني: لم يكن ذا أهمية قصوى عند المدرسة والطلاب على حد سواء لكنني منحته انتباها مضاعفا لما لمسته ورأيته من الرعونة في الطرقات؛ وهو الإشارات المرورية التي تكون ملمعة على الطريق وفهم معانيها. كان جلوسي بداخل القاعة والانتباه للشروح يثير استغراب المتواجدين بالمدرسة، قائلين بالهمس وبالنظرات الخالية تماما من إشارات المرور الحمراء والخضراء: " إنك تضيع وقتك يا فتى! ".
بعدها سمعت أن السياقة مهنة " الجاهل " وأن تعلمها مضيعة للوقت والمال، والأمر لا يتطلب سوى إمساك مقود سيارة ما واقتحام الطريق، والاحتكاك بالجيران في الطرق المزدحمة مع استعمال قاموس متشعب من الكلمات النابية والبذيئة واقتناء عصا غليظة وملساء بغية استخدامها إن تجاوز الاحتكاك تطاير الريق وتطلب الأمر اللجوء إلى عراك عنيف ورباعي الدفع مع الجيران الذين يتشاركون معك حيزا ضيقا من الطريق. اكتفيت من أيام دراستي للسياقة والتي تسربت منها مبكرا، بمعرفة أهمية النقطة الخالية(بيمور) والمرآة الجانبية التي تنبهك بأنك لست الوحيد الموجود على الطريق. رجعت بعد التسرب لركوب التاكسي مرة أخرى ريثما تمطر السماء حديدا.
عندما تمر عيناك بملتقى طريق مزدحم يمكنك أن تعرف نوعية التفكير والأخلاق لدى مجتمع ما. وأول ملاحظة ستخرج بها من طرقات الوطن هي: العشوائية أثناء التخطيط لمواجهة تحديات ما، والأنانية عند تنفيذ المخططات والتعامل مع الآخرين الذين لا نعرف أسماءهم وقبائلهم وجهاتهم، حتى أصبح الترقيم في مؤخرات السيارات يخلق مودة متينة لا تخلها الأخوة في الوطن والإسلام والإنسانية لدى الشعب الذي ما زالت عقليته أسيرة لقيود الماضي وتشعباته.
في طرقات العاصمة سترى سائقا منتفخ الأوداج، يسير بسرعة مجنونة غير مكترث لضوء الإشارات؛ وعندما تستفسر عن سبب احتقاره للسلطات وجيرانه على الطريق؛ سينزل زجاج سيارته ببضع سنتمترات صانعا فتحة بمقدار عرض قبره مع نظرات جد متعالية لصغار رجال الأمن المتسمرين أمامه تلفحهم الشمس أو يلسعهم البرد ليلوح بهويته بصوت متثاقل الحروف قائلا لهم معكم شخص فوق القانون..
أما إذا كانت مكانته متوسطة فستكون فظاظته أقل حدة؛ وربما أخرج هاتفه قائلا لهم معكم أحد الزملاء في القطاع..
أما إذا كان من الدهماء الذين لا حيلة لهم ولا مكانة في أعماق السلطة فإن رجال الأمن سيأمورنه فورا بركن سيارته جانبا مع فحص دقيق لأوراقها ولن يخرج من عندهم إلا إذا دفع غرامة أو إكرامية من وراء القانون..
لن نتقدم قيد أنملة وعندنا:
- القانون لا يطبق إلا على الضعفاء.
- الموظفون السامون يتعاملون بفظاظة واستعلاء مع شريحة المواطنين الذين كلفوا بالسهر على رعاية مصالحهم.
- المواطن ضعيف ومتمسكن جدا، وإذا واجه المسؤول بدل أن يصارحه بالنواقص يبدأ بإدغامها في تعابير التطبيل. ذات حصة من سنة التعليم زارني مسؤول حكومي كبير المقام مع لفيف من معاونيه في قسم دراسي، سألني عن حالة التعليم، فقلت له بأنها متعبة، فأعاد علي نفس السؤال مرة أخرى! فكررت له نفس الإجابة. بعدها قابلت أحد أعوانه وقال لي بأن المسؤول السامي طرح علي نفس السؤال مرة أخرى حتى يستمع مني إجابة أكثر تجميلا للواقع وإخفاء لعيوبه.
عندما يتملص المسؤول الحكومي من احترام القوانين ومراعاة الشفافية في تسيير الموارد فإن المواطن سيلتحق به طمعا أو خوفا. وقديما سمعنا المثل: " إذا كان رب البيت بالدف ضارب فشيمة أهل البيت الرقص ".
هنا لعيون(حي لمغيطي). الشتاء لم يأت، وسنة 2019 تلفظ أنفاسها الأخيرة لتنتزع سنة أخرى من عمرنا وهو يسير بسرعة قصوى نحو الإشارة الحمراء التي لا نعلم توقيت وميضها ولا في أي أرض سنبصره. استمتعوا بحياتكم وافعلوا الخير بقلب سليم ولسان صدق. فموتكم هو بداية نسيانكم، لن يقوم أحد ما بالأمور التي أحببتم القيام بها وأنتم على قيد الحياة. مدخراتكم سيتقاسمونها وربما لا يوزعون بعضها على المحتاجين. تذكروا لقاء الله وخططوا له بعيدا عن رؤية ضجيج أعمالكم الجيدة على ألسنة الناس المغلفة بالطمع والخوف. مدائح الناس وشتائمهم بحقنا بعد الرحيل لا يعول عليها كثيرا في تحديد مواقعنا هناك بالدار الآخرة. لا أحد يحدد مصير عباده إلا من خلقهم. اعملوا واستمتعوا بحياتكم قبل رؤية وميض الإشارة الحمراء والتوقف الإجباري. قال الله تعالى: (( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )).
الساعة 16:10 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
مشاركة هذا المحتوى: