بعد الثلاثين (تدوينة)

بعد الثلاثين!
شابان من مالي بقربي كانا يشتكيان من تسعرة النقود التي يلفونها لنقاط التفتيش من أجل العبور. وذلك الشرطي المكتنز الوجه والعبوس سألني بطاقة تعريفي مشتبها في ملامحي التي نحت الترحال تفاصيلها وجعلها شبيهة بملامح الأزواديين وهم يعتلون الصحارى على أحلامهم الصبورة ويحدقون نحو الشمس بنظراتهم الحادة من وراء انحناءات اللثام في رحلة بحثهم المضنية عن رغيف الحرية، والذي يفضلون طعم مطاردته على تناول رغيف السلام تحت ظلال الأوطان المزيفة. أحجم الشرطي عن إكمال غربلة بقايا هويتي عندما قال له سائق الباص: (ذ عندينو موريتاني!). استرخيت أنا بصمت كبركان خامد على المقعد ولم أتشنج مطلقا، فأعصابي بعد بلوغ سن الثلاثين أصبحت أكثر برودة من قارة القطب الجنوبي أو الانتركتيكا. أعدت إلى محفظتي النحيفة هويتي البيومترية وعدت مجددا للتحديق من خلال الفجوات الصغيرة في نافذة الباص المظللة متأملا تقاسيم الطريق. كنا نمر من أكناف تمبدغه، وفيها تعرف جدي القادم من أعالي لعصابة وآدرار والمدفون في كولخ بالسنغال على جدتي التي أحبها من أول نظرة وذلك عندما مر بمخيمهم تاجرا. مخيمهم المؤلف من عوائل جمعتها صروف الدهر من أقاصي الشمال، كانوا يتركون بنادقهم جانبا كلما وقعوا في الحب. كان صوت بوكي الدافئ ينبعث منسابا كأمطار أغسطس من مسجل الباص وكان ضوء الباص يذيب أضواء القمر ثم يحولها لظلام شفاف يزدحم في الأطراف. عندما مررنا بقرية أكجرت العليا التي تفصلها عن أكجرت السفلى الكثبان الرملية وواحات النخيل آنست صورا كثيفة من الذكريات غلبت عليها تقاسيم جدتي من الأم الوضاءة، والتي تعرف عليها جدي عندما قدم من خلف الكثبان الفاصلة بين بتلميت وواد الناكة لمخيمهم تاجرا. وهكذا ولدت أنا من الأقدار التي تصنعها الرحلات عادة وهكذا سيولد أبنائي أيضا بنفس السيناريو المرتحل، والذين أريدهم أن يولدوا في وطن لا تنقطع فيه الكهرباء والماء، وطن طرقه معبدة ونظيفة ومدارسه غير محطمة المعنويات، وطن لا تقاس فيه الوطنية بصخب الشعارات ولا بحفظ الأناشيد المحروقة القوافي ولا بفصاحة اللسان والملامح فقط. وطن يحترم المواطن وجهده، يكرم الإنسان كما كرمه الله، وطن لا يجعلك تشك بجدوى الانتماء إليه بعد تجاوزك لعتبة الثلاثين من العمر. عندما حكى بوكي مطلع القصيدة الشعبية: ( لكليبات السبعه ) تصادف ذلك مع انشقاق أضواء مدينة لعيون في الأفق. قلتها في نفسي: استطيع الآن أن أغمض عينيَّ ثم ما أن تحتك عجلات الباص بشوارعها الصلدة حتى أبدأ في تسمية الأماكن وأنا معصوب العينين. إنني أعرف رائحة الشوارع بشكل جيد، شممت رائحتها ليلة مولدي وبقيت عالقة بروحي كعطر غامض. إنني أعرف كيفية استجواب جبالها إن هي رفضت أن تكلمني بصراحة عن هموم المدينة أو أن تعيد لروحي صدى الذكريات البعيدة. أعرف بيوتها الآيلة للسقوط، وتلك التي انتحرت منذ سنين حينما لبست عباءة فضية من الاسمنت وتخلت عن الحجارة وجعلت الجبال من حولها حزينة حينما تخلى العمال عن تقليم سفوحها لنحت حجارة البناء الأنيقة. رغم تبدل الوجوه والبضائع والملامح إلا أن تربة شوارعها كلما مررت من فوقها أحست خطواتي مطرا فأينعت الذكريات الملتصقة بها من جديد. هذه المدينة جعلت مني شاعرا ورساما وكاتبا ذات يوم صيفي حار عندما كان مص المثلجات الحلوة والجلوس عند حافة البطحاء بعد المطر وشم رائحة خبز العاشرة صباحا وبناء قصر من الطوب على الرمال ومشاهدة لقطة من مسلسل بوليانا كافيا لصنع السعادة. قبل أن تأتي (الأستذة) والأحزاب والمبادرات وحب الوطن لينسفوا كل شيء جميل شيدته المدينة في قلبي. لقد قتلوا الشاعر عندما بالغ الشعراء في المدح وحضور الولائم فظننت الشعر مجرد مدائح فقط. قتلوا الرسام عندما فشلوا في تشييد مصنع للأقلام الملونة. كما أصابوا الكاتب بجروح بليغة وجعلوه معوقا لا يقوى على التمرد عندما أصبحت الكتابة بالأمعاء أكثر صخبا من الكتابة بالروح. ديواني الشعري الأول التي كتبته بيدي ضاع في مكان ما من هذه المدينة، وذلك عندما أعطيته لفتاة نجحت بأعجوبة في شهادة ختم الدروس الإعدادية. رسوماتي على جدران البيوت غسلها المطر والدهان. الحياة أصبحت معقدة هنا كما هو الحال أيضا في الوطن. والمشاء الذي يرفض ركوب التاكسي في شوارع المدينة تبتلعه النظرات المستفزة خاصة إذا كان أنيق الثياب، إنه يشعر بالغربة كأنه مجنون يسير في الطريق بلا أحذية.
بعد ما يناهز الثلاثين عاما من التجوال في أزقة الحياة المضببة بالمواعظ الصامتة، أعود إلى مدينتي بحقائب فارغة، أعود إليها كجندي هارب من الحرب. تجولت في أطراف الحي دون أصدقاء، أكلت خبزا غير مغموس في لبن الماعز. جارنا صانع الخبز الذي كان من نجوم التسعينيات، وكانت رائحة الأطاجين لا تغادر منزله ضحى كل يوم وهو محاط بالمال والبنون، مررت عليه في كوخ من صفائح القصدير وقد أضعفه الكبر وارتسمت على محياه تجاعيد السنوات، كان يجلس خلف طاولة صغيرة عليها ثلاثة أقلام وأربع حزم من النبق وبعض الحلويات فيما مجموعه لا يتجاوز 2000 أوقية قديمة. كأنه كان يقول في صمت: إن الحياة لا ينخدع بزينتها وحيوية شبابها الآيلة للشيخوخة إلا من كانت على عينيه غشاوة من الغرور تحجب عنه تقلب الأيام. كانت البئر وسط الحي مسدودة الفم بعدما هجرتها الدلاء، رحل الشيوخ الطاعنين في السن وامتلأت الفراغات في الحي بالمباني الجديدة. كنت أسير وحيدا كساعي البريد الذي يحمل في حقيبته رسائل جنود ماتوا في الحرب، المستشفى القديم أسره حائط المستشفى الجديد، يا ترى هل مازلت عليه صورة بوش الأب مرسومة بالفحم ومكتوب في جوارها الموت لأمريكا، إنني أفكر مليا في الهجرة إلى أمريكا حتى أكتب على حائط البنك الدولي تعيش موريتانيا. لقد أضعت ثلاثين عاما في "حب الوطن" قبل أن اكتشف أن الوطن لا يحب إلا الذين يسرقونه بكل ذكاء واحترام. في هذا الصباح المتقلص البرودة وجدتني أفتش عن لعبة صغيرة أتسلى بها، وجدتني أقف تحت ظلال شجرة عتيقة في الطريق أفتش عن أرجوحة متدلية من أغصانها أجلس عليها وأغمض عيني ثم أتخيل السنوات الغائبة تدفعني إلى الأمام وتعيدني من جديد إلى الوراء. لكن العمر المنقضي ليس أرجوحة أطفال، إنه رصاصة تسير نحو وجهتها بسرعة فائقة وطائشة. ماذا أفعل في الثلاثين المتبقية أو الستين، بل ماذا أفعل اليوم وغدا، بعد الثلاثين أشعر أنني أصبحت رجلا بلا خطط محددة وبلا أمنيات عريضة!
لكن حسب تجربتي الهشة كأحد مواليد نهاية القرن العشرين استفاد من التلقيح ضد الكساح والسعال الديكي وطفرة الأغذية المعدلة جينيا، وكان أوفر حظا من أسلافه الذين عاشوا قبل اختراع جواز السفر والبطاقة الائتمانية وأقراص باندول أكسترا المضادة للآلام. فإن البحث عن المتعة والحصول عليها أيضا لا يؤدي للسعادة المستدامة. إن تحقيق الرغبات يشبه أن تعجبك أغنية فتقوم بتحميلها وتعيد الاستماع لها مرارا، وفي نهاية المطاف تقوم بحذفها عندما تموت أنغامها في قلبك المتقلب المزاج. لا شيء أبدا يستمر معنا في هذه الحياة سوى الخوف من الموت والأمل، الأمل هو سر قوتنا وليست الصحة واللياقة البدنية والعقلية، العجوز التي فقدت أضراسها وتلوك الطعام بكل صعوبة ربما تستمع بمضغه أكثر منا، وربما تنتظر الوجبة الموالية بلهفة أكبر من لهفتنا. السجين يجعله انتظار الحرية يصنع من أشعة النور الخافتة التي تتسلل إلى زنزانته حبالا يتسلقها كل يوم ليتأكد من شروق الشمس. بينما الشمس تشرق علينا دون أن تثير انتباهنا. الأمل هو أكسير الحياة ومخدرها الجميل الذي لا ينقشع تأثيره فينا إلا عندما نودع الحياة إلى غير رجعة. الوطن ملوث بالمظالم واللصوص، هذا ما اكتشفته بعد الثلاثين. فقط نسيت أن أخبر ذلك الشرطي أن شكوكه كانت في محلها تماما. وأنني سأصبح وطنيا حتى لا يشك في هويتي البيومترية مرة أخرى. وعلى الزملاء الأستاذة والمعلمين أن يضربوا بكل صمود وحزم. فإن المجتمع لا يحترم الضعفاء ولا يحترم المبادئ الجافة وكذلك الحكومة أيضا، قلبي معهم وكذلك راتبي وعلاوتي.
هنا لعيون(الحي العركوب). حاولت قبيل الغروب التقاط صورة من الحي، لكن تكدس القمامة في أهم نقاط التصوير بين الملعب الجديد وقصر العدالة وهضبة الإعدادية أعاقني، وعندما تسلقت قمة الجبل أعاقني الضباب النحيف المكدس في أقصى الأفق كأنه غبار الطباشير الذي يلاحق رئتي منذ ستة أعوام خلت. وعليه فالصورة قديمة.

الساعة 00:53 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
مشاركة هذا المحتوى: