الأستاذ إدوم بن فضيلي كما عرفته بقلم/عبد الله ولد عبد اللطيف

تمرّ بنا هذه الأيام الذكرى الأولى لوفاة شيخنا الفاضل وأستاذنا النبيل الأستاذ إدوم بن فضيلي بن أحمد جد في الرابع مارس 2020م مُخلّفاً وراءه أيتاما كُثْـرا يهتفون: "سأذكر عَمْراً مَا تراخت منيتي ** أيادي لم تمنن وَإِن هِيَ جلّتِ" كما ترك بواكي كثيرات يَندبْنه قائلات: "وما كان قيس هلكُه هلكَ واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدّما"، ولأنّ الرجل شكّل في بيئته مدرسة نموذجية جديرة بأن تُفتح فصولُها للراغبين في الاستفادة منها والاقتباس من نورها، والسير على منوالها، "فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبّه بعضهم ببعض" كما قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 28/150) ولأنني أحد طلابه المعايشين لكثير من فضائله وفواضله أردت أن أستذكر في هذه المناسبة ومضات من سيرته، وقبسات من هديه، تذكيرا به، وترحّما عليه، ونشراً لخصال الخير التي كان يرعاها غرسا وسقاية، على أن أعود لها لاحقا بشيء من التفصيل؛ فتعميم مثلِ هذه النماذج الإيجابية ترسيخ لمفهوم القدوة الحسنة، وتجسيد للقيم المثالية في واقع الناس، ولذلك كان السلف يعلون من شأن سير الرجال؛ فيقول أبو حنيفة: "الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثير من الفقه لأنها آداب القوم. ولبعضهم: الحكايات جند من جنود الله يثبت بها قلوب أوليائه. قال: وشاهده قوله تعالى:{وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك}". (ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/23).
عود على بدء
ينحدر الأستاذ إدوم بن فضيلي – لِمَن لا يعرفه – من قرية الصفا الواقعة غربي مقاطعة لعيون على بعد 35 كلم على طريق الأمل. ويعتبر أحد أعيان ولاية الحوض الغربي الذين تركوا بصاتهم ماثلة في حياة سكان الولاية؛ إذ كانت مؤسساته ومبادراته، ومشاريعه ".. مالَ من قلّ مالُه ** وذخراً لمن أمسى وليس له ذُخر" فمحظرته تحفّظ القرآن وتدرّس علومه بلا مقابل، ومؤسسته تكفل اليتيم، وتعيل الأرملة، وتحمل الكلّ بلا تمييز، ومشاريعه في حفر الآبار وبناء المساجد، والمساكن لمحتاجيها لا تزال ناطقة عن نفسها .. وبذلك كان أحد الذين ماتوا، وما ماتت فضائلهم، ومرّوا بدارنا وأبقوا آثارهم؛ " فماتَ وأبقى من تراث عطائهِ ** كما أبقت الأنواءُ للحيوانِ".
الأستاذ إدوم مفتاح للخير
لقد كان الأستاذ إدوم – رحمه الله – مفتاحا للخير؛ يطرق له أكثر من باب، ويضرب له في كل غنيمة بسهم، ويحتال له ما وسعته الحيلة " إنَّ الكريم على العلْياء يحتالُ" فهو في المحظرة أستاذ، وفي المسجد إمام، وفي المجتمع فاعل خَيْرِيٌّ، ووجيه اجتماعي، ومؤطر مدني؛ يُعلّم الجاهل، ويكفل اليتيم، ويعيل الأرملة، ويكسب المعدوم، يمشي في الحاجة، ويسدي النصيحة، ويبذل المشورة، يحرّر لهذا رسالة، ويقوّم لذاك طلبا، ويكتب لذلك تزكية .. وقد جاء في سنن ابن ماجه (237) بإسناد حسّنه الألباني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه». وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] أي نفّاعا للناس حيثما وجدت.
إدوم أستاذ الإيجابية وبعد النظر
تنحلّ الدلالة الفلسفية للإيجابية عن معاني التفاعل والتعاون والمبادرة للخيار الأفضل في الظرف الأسوء، وتفرّس الجوانب المفيدة في الخيارات المعروضة، وقد حظي أستاذنا إدوم بن فضيلي من ذلك بكثير مع أناة لا تخفى، وبعد نظر لا تخطئه العين؛ فهو يُؤمّل في كل شيء خيراً ما، ويُبصر بقوة الأمل وَميض الضوء في نهاية النفق المظلم؛ فيشعل شمعة حين ينشغل غيره بلعن الظلام، تراه يزرع فوق الحجر، ويغرس على المدر، يعرف أهدافه بوضوح، ويتحرك لها بثبات، لا يستزلّه عنها أحد فيُعْجِله، ولا يستفزّه آخرُ أو يُثْقِله. ونماذج ذلك وأمثلته كثيرة لولا إكراهات الحياة.
إدوم شجرة الأخلاق المثمرة
في تاريخنا الإسلامي أنّ أهل الحديث كانوا كالشجرة المثمرة يرميها الناس بالحجارة فتقذفهم بالثمرة. وفي أدبيات النضال للزعيم الهندي "غاندي": نجد قوله "يرموننا بالحجارة فنجمعها ونبني لهم بها قصرا من المحبة" وأستاذنا لم يكن بعيدا من تمثّل هذه المعاني في حياته؛ فقد حباه الله بأخلاق نادرة تدلّ على معدنه النفيس، و«الناس معادن كمعادن الفضة والذهب» كما في الصحيحين؛ فهو في أخلاقه ".. مِثلُ صَفو الماء أمّا لِقاؤُهُ ** فبِشرٌ وأمّا وجهُه فَجمِيلُ"، صبورٌ لمن آذاه، عفوٌّ عمن جفاه، وَدُودٌ لمن قلاه، بل يبادل ذلك كله بالمعروف والإحسان؛ تحقيقا لآية فُصّلت التي يحفظها ويجيد تلاوتها {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
الأستاذ إدوم روح شبابية وتفهم للاختلاف
الأستاذ إدوم لم تمنعه مكانة المشيخة ولا سنّ الشيخوخة من روحه الشبابية التي ظل يتمتع بها حتى وفاته - رحمه الله - كما لم تحمله أُستاذيتُه للجميع وأفضاله عليهم على مصادرة آرائهم، واحتكار الحقيقة دونهم؛ فهو يستمع لرأي ابنه، ويستفيد من فهم تلميذه، ويحترم آراءهما المخالفة له مهما كانت بعيدة ومصادمة لخياراته، يُريك من الاهتمام برأيك، والاحترام لخيارك، والاستفصال عن مبرراته ما يُوهِمُك أنه مقتنع به، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، يختلف معك فيُبْقِي للمودة مكانا وَثِيراً، ويتفق فلا يراهن على ذلك كثيرا .. بُحت له مرة بضيق عطن البعض ممن لا يقبلون منك أن تُبصر الشمس إلا بأعينهم أو تميز الخير إلا بعقولهم فردّ عليّ بما مؤداه: لا عليك منهم؛ امض لهدفك، فسيعلّمهم الزمن.
إدوم شيخ المحظرة
أنشأ الأستاذ إدوم محظرته – محظرة الإمام نافع – في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وأقام فيها مدرسا متقنا للقرآن الكريم وعلومه، محتسبا في تدريسه بلا مقابل، حتى خرّج عشرات الحفاظ المجيدين لتلاوة القرآن الكريم رواية ودراية، مركّزا على أربعة أمور تميّزت بها محظرته: الأول: الحرص على تطبيق أحكام التجويد من أول وهلة، وهو ما كان نادرا وقتَها في منطقته. والثاني: تطبيق ممارسات تربوية جديدة على ساحة التعليم المحظري كالتعلّم الذاتي والتعلم من الأقران؛ فالطلاب الصغار يكتبون لأنفسهم، ويصحّح بعضهم لبعض، ويستفيدون من تسجيلات مشاهير القراء التي كانت متاحة في مكتبة محظرته في وقت مبكّر. والثالث: صناعة الوعي المدني لدى عموم طلابه، وبث الروح القيادية عند النبهاء منهم؛ فخريجوا محظرته غالبا لا تجد فيهم تلك الدروشة التي يوصف بها عادة طلاب المحاظر؛ فمن نضج منهم يكون قادرا على التعامل مع مفردات الحياة العامة بسهولة، كتحرير الرسائل، وصياغة التقارير، وتلخيص الكتب، وإلقاء الخطب، والإمامة، والتحدث إلى الجمهور والتلاوة أمامه بكفاءة. الرابع: إدخال العنصر النسائي في التعليم المحظري وتخريج دفعات من الفتيات الحافظات لكتاب الله تعالى.
إدوم صاحب المشاريع النافعة
ترك الأستاذ إدوم بعده تراثا ماديا ومعنويا، مما ينفع الناس ويمكث في الأرض: مؤسسات علمية واجتماعية قائمة بذاتها، كمحظرة الإمام نافع، ومركز فطيم لتحفيط القرآن الكريم، وجمعية نافع للأعمال الخيرية، وعلامة تجارية مسجلة باسمه هي: (وَخْيَرَتْ)، فضلا منافع وميزات تمتّع، ويمتع بها كثيرون ممن لم يكن لهم أن يصلوا إليها لولا فضل الله تعالى أولا، ثمّ جهود الأستاذ إدوم ثانيا؛ فهو مِمّن ".. عِيشَ في معروفه بعد موته" رحمه الله تعالى.
واجبنا تجاه الأستاذ إدوم، بل تجاه أنفسنا
حين نتحدث عن الأستاذ إدوم، أو نستعرض جانبا من خصال الخير فيه، فنحن لا نفعل ذلك تمجيدا له، أو ثناء عليه - وإن كان يستحق-؛ لأنّ الرجل قد انتقل عن دارنا، ولم يعد يتنفع بشيء من ذلك، وإنما لنحيي تلك الخصال والمعاني في نفوسنا من خلال مذاكرة سيرة من عاشوها واقعا في حياتهم، فالرجل شخصية وطنية بامتياز، ومثله ليس مُلْكا لأسرة أو عائلة، بل للمجتمع والأمة، ومصلحة إبقاء خصاله حاضرة في الواقع المشهود هي للمجتمع وأجياله التي تجد قدوات للتأسي، ونماذج للترقي، وليس له شخصيا - رحمه الله – ولذلك كان من واجبنا تجاه "الأستاذ" - بعد الدعاء- وتجاه أنفسنا وأجيالنا اللاحقة أن نبقيّ جذوة أعمال الخير التي قادها، وخصال البرّ التي رعاها مُتّقدة في النفوس، وماثلة في العيون؛ لتبقى شاهدة بالخير لأهله، داعية للاقتداء بهم، وليكن ذلك من خلال مبادرات تطلقها نخبة من طلابه – وكلهم نخبة – تحمل اسمه، وتحيي ذكره، وتُشيع جوانب القدوة في أعماله بإطلاق اسمه على الشارع الذي عليه جمعيته في مدينة لعيون مثلاً، وعلى مدرّج في جامعة العلوم الإسلامية بلعيون، أو دار الثقافة بها، وتنشئ جائزة سنوية باسمه، تدعم مشاريعه بالفكر الناضج، والجهد الخالص، والمال الحلال.والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

عبد الله ولد عبد اللطيف
Abdllahi.alhadrami@gmail.com
مشاركة هذا المحتوى: